الحب والحرية وجدل الاختلاف “حوارات عصرية”
© Asbar Middle East
المحتويات
– ملخص
أولًا: توطئة
ثانيًا: الحب والحرية
ثالثًا: الاختلاف والجذر الوجودي
رابعًا: الاختلاف واختلال الوجود
خامسًا: الوجود والكون المختلف
– المراجع:
– ملخص
ربما يدعي البعض أن مفاهيم كالحب والحرية باتت خاصة اليوم، ولم تعد منتجة على المستوى العام اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا! وربما يعزز البعض قولهم أنها باتت أشبه بميتافيزيقا غيبية ووصايا ذاتية، وذلك مقارنة بالتفوقات العسكرية والتقنية التي يشهدها العصر الحديث.
مهما سادت وتغولت نزعات الهيمنة اليوم، لكن جذر تحققها العلمي الاختلاف. إقامة عالم التشابه الرقمي ونماذج السياسة الموجهة والغرضية هي التي تلغي هذا الاختلاف من جذره وتقيم ممالك الاستبداد والاستلاب والإنساني. كما أن نفي شرطي الحب والحرية بنفي الاختلاف ويهدد سطح الكوكب من جديد في سلامه وأمانه، لا بل وعودة كل نماذج العسف والتسلط الشمولي ما قبل التاريخ الحديث.
جدل الاختلاف، الحب والحرية، موجه الدفة الإنسانية لاكتمال معنى الوجود حتى وإن بدا العالم اليوم في اختلال ناحية تعاظم المصالح المادية المستنزفة للمكنون البشري، هو غرض هذه الورقة ومفتاح تساؤلاتها المعرفية، واهمها سؤال الإنسان في مصيره ووجوده؟
أولًا: توطئة
لا يدعي هذا النص اكتماله، كما أنه لا يقدم نظرية في علوم الاجتماع، ولا السلوك والتربية وعلوم النفس وغيرها من العلوم التطبيقية. إذ تحمل هذه الورقة بين طياتها، إمكانية متابعة حوارات القرن الواحد والعشرين فلسفيًا ومعرفيًا. فكما تسائل جيل دولوز: ((هل نستمر في الحديث الآن عن إفلاس الأنسقة والمذاهب، بينما كل ما حدث هو أن مفهوم النسق هو الذي تغير. وكلما تم إبداع المفاهيم في مكان وزمان ما، فإن العملية المؤدية إليه ستسمى دائمًا فلسفة))(دولوز، ص 33). والرؤية المعرفية المتضمنة في هذا السياق تُبنى أسسها على رؤية ثلاثية الأبعاد للوجود:
• البعد المادي للكون والوجود وقد كشفت الكمومية والجدل الكمومي (كما درسته تفصيلًا في بحثين سابقين) جل خفاياه غير المرئية، ولم تكتف بالظاهر الحسي والمادي منها، وفضّت الطريق نحو سبر مجاهيله وخفاياه وباتت على مشارف أسئلة ومجاهيل جديدة، جيدة و/أو سيئة.
• والبعد التواصل بين إيقاعات البشر المتعددة عقلًا وفكرًا وروحًا وليس فقط، بل تواصل حسي إنساني بآن، في المحيط الاجتماعي للإنسان، وفي فضاء الوجود المتسع (وهذه ورقة بحثية قيد النشر تفصيلًا)، خاصة وأن الجدل الكمومي قرب المسافات واختصر الزمن لمجرد ثانية، “لمسة زر ويصبح البعيد قريب جدًا”.
• أما الثالثة فهي تساؤلات هذه الورقة، عمن يجمع ويلحم أطراف التشتت الكوني، حيث تتراكم فوضى الأجزاء والأفراد، وتهيمن لغة الهيمنة والرقمية على النفس البشرية التواقة دومًا كما للاستقرار والأمان، للحب والحرية والتعاطف الإنساني متمثلًا بحقوق الانسان وحرية إرادته وخلاصتها المعرفية وهي جدل الاختلاف.
• وربما أحاول في البعد الرابع قريبًا، أو متأخرًا، في الإيمان. فحيث تمثل الأبعاد الثلاثة الأولى نموذج محاكاة ومقدمة لتساؤلات المعرفة في القرن الواحد والعشرين وقد باتت تتجسد أفقيًا ببعدي الجدل الكمومي وجدل التواصل، بينما ما يجعل بيت الإنسانية يرتقي ببعده الثالث، هو الارتفاع مع الحب والحرية وجدل الاختلاف، وإلا فإنه وحسب آلان دونو ((يصبح التفكير تافهًا حين لا يهتم الباحثون بالملائمة الروحية لمقترحاتهم البحثية))(دونو، ص 94).
هي ليست أبعاد مكانية ثلاث، بل أبعاد وجودية تشكل فضاء الوجود وطغمته العصرية، بينما يقودني التأمل إلى البعد الرابع في الإيمان والذي ليس هو التدين، ولا اقتفاء أثر المسلمات، ولا الميتافيزيقا، بل هو الإيمان كمكنون روحي، كبعد يكتنف تشكيل الحضارات دون أن يتدخل في وجودها المادي، إنه الإيمان بالإنسان، بالحب، بالحرية، بالذات الجمعية للبشر وقدرتها على الحفاظ على سلام الكوكب ومصير الإنسان. بينما حوارنا التالي في الحب والحرية وجدل الاختلاف كلحظة ثالثة من الجدل الأبستمولوجي.
ثانيًا: الحب والحرية
لم تزل كلمتي الحب والحرية الأشد تأثيرًا في النفس البشرية، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع. فعلى الرغم من أن حاجات الاستقرار المادي من (مأكل ومشرب وأمن وأمان، عمل وإنتاج، تعلم وتعليم وحقوق مادية خاصة وعامة)، شرط أساسي لتحقق دائرة الوجود العام اجتماعيًا، إلا أن الحب والحرية شرط اكتمال دائرتها، وليس فقط، بل انبعاث القدرة على مواكبة النمو الإنساني لحلقات أخرى من النمو والتطور تضاهي التطور والتقدم العام. فمجتمع العبيد يمتلك حقوقًا مادية عامة، ولكنه يفتقر لشروط الحوافز التي تولدها الحرية كما الحب، ومجتمع السلطات القهرية المشرقية، وسلطات الأتمتة الرقمية، تنفي الحوافز الإنسانية المولدة عن الحب والحرية. وأكاد أجزم أن جل همّ سلطات الاستبداد السياسي والديني الحاضرة والتاريخية، سلطات المال والتقنية المعولمة اليوم، هو محاربة الحب والحرية ومثلهما حق الاختلاف، فقط لانهما مولدا الجديد، والجديد يغير في معادلة سلطاتهم ومصالحهم الثابتة والراسخة.
الحب والحرية ليسا كلمتان ملهمتان للشعر والفنون والادب وحسب، كما هما ليسا مفهومين عقلين يكتنفهما البرود الفكري، بل جدل فلسفي متحقق في حلقات التاريخ الإنساني، جدل قوامه حق الاختلاف والترابط بآن. ومع أنه لا وجود لمقياس كمي لليوم في موضوعتي الحب والحرية، كما تناولها فرويد في التحليل النفسي الفردي والجماهيري العام فـ ((طاقة الميول والنوازع المرتبطة بما نلخصه في كلمة الحب، علمًا بأننا نعتبر هذه الطاقة مقادرًا كميًا، ولكنه غير قابل للقياس بعد))(فرويد، ص 55)، لكن تحققه في الحياة يشكل الدائرة الاوسع لإمكانية الاستمرار، لا وبل باتت قابلة للقياس الكمي والنوعي بآن في نماذج الحياة السياسية والثقافية والمجتمع والدولة، خلقيًا وقانونيًا واجتماعيًا وحتى فلسفيًا وصوفيًا في الفلسفة العربية أيضًا حسب (العروي، ف1).
الفلسفة، وعلى تعدد مناهجها، حددت أبعاد الوجود الإنساني بين حدين من التناقضات: الجزئي/الخاص والعام/الكلي، الذاتي والموضوعي، الحياة بين الحسي والأخلاق، المادة والروح، وفي أعلى مستوياتها العقلية تعارض الفكري النظري، ومنها الفلسفة ونظريات المعرفة، مع العلوم ونظرياته العلمية التطبيقية والتجريبية والتخصصية. وهذا التعارض الأخير يبدو أنه لليوم الصيغة الأشمل لجماع التناقضات التي يعيشها الإنسان بصورته المفردة والعامة.
فما الذي يلحم شطري الوجود؟
في صيرورة اللحظة المعرفية التي نحاول تحديد أبعادها في الجدل الأبستمولوجي، نفترض أن هذا التعارض العام بكل تجلياته، ليس حقيقة مطلقة، بقدر ما هو وجه من أوجه التقدم في التاريخ البشري عبر سلسلة من الحلقات المتتالية والمتعاقبة والمتسعة عقلًا وفكرًا وروحًا ومادةً وحضارةً كنتيجة. فكل فرد مذ وجدت الإنسانية يكرر دورة الحياة العامة من ولادة لطفولة لشباب فكهولة وموت، ويكرر دورة الوجود من تحقيق لحاجياته الفيزيولوجية المتمثلة بالمأكل والطعام والاستقرار والأمان، وتمكين وجوده الاجتماعي العام، وهنا تتدخل نظريات علوم الاجتماع والسيكولوجيا والسياسة وتشكيل الحضارات والأمم وصراعها وتنافسها في تحديد هذين البعدين في الوجود، كالدينية والماركسية والوضعية المادية والمثالية وغيرها. بينما يغدو موضوع تحقيق الذات وتعزيز وجودها هي لحظة ديمومة لسيرورة البشرية في لحظاتها المفصلية التاريخية السابقة، وتغدو الغاية البشرية محورها الحب كما الحرية، وليس التنافس والصراع كجوهر مادي وحسب. وتصبح الحرية غاية إنسانية لا تعالج بذات الأنساق المعرفية والعلمية الكمية وحسب، بل وفق المكنون الإنساني المتسع على التنوع والتعدد والاختلاف، أو كما أجازها هيجل ((بالحرية وحدها يكون الفن الجميل حقيقيًا، وهذا يحقق مهمته القصوى عندما يوضع في المجال نفسه على غرار الدين والفلسفة، وهذا هو اعمق مصالح البشرية))(هيجل، ص 35).
رحلة الإنسان تقدمت وتعاقبت في أطوار معرفية وعلمية مادية متسعة منذ وجوده البدائي إلى وجوده العصري اليوم، حاملًا معه كل تراث المعرفة البشرية. ومع أن هذه السيرورة تبدو في إحدى أوجهها مستمرة متعاقبة، لكنها في حقيقتها تباينت عبر انقطاعات وتمايزات مفصلية في حيوات البشرية. لحظات انقطاعاتها مثلت قفزات في نماذج حياة الإنسان بكل تجلياته، والحب والحرية رائزها. من العبودية إلى التحرر، من الامبراطوريات إلى الدولة، سطوة المُلك وعسف السلطات إلى التعاقد الاجتماعي وعصر الحريات، من زواج الرق والاتجار بالنساء، إلى الحب وحق الخيار، من هيمنة الأيديولوجيات العلمية والمعرفية الشمولية كالجاذبية النيوتونية والماركسية اللينينة والدينية المهيمنة، إلى لحظة تحرر الفكر البشري مع أينشتاين في النسبية الخاصة والعامة، والليبرالية وجمع الحقوق المادية والحريات في قارب العقد الاجتماعي والدولة العصرية… هي لحظات تاريخية تتسم بعمومتها وتحمل في مضامينها التفاصيل والجزئيات أيضًا، ولحظتها اليوم هو حل التناقض بين وجود الإنسان المتحقق ماديًا بعصر التقنية وثورة العلوم، والذي بات يحقق لحظات تقدم مدهشة من حيث حل ألغاز الطبيعة والتواصل وثورة التقنية والمعلوماتية والصناعات الرقمية، وبين إمكانية حفاظه على الوجود الإنساني كقيمة أخلاقية وثقافية وإنسانية عامة محورها الحرية، لا الاستلاب وعودة العبودية بصورة رقمية مرة أخرى. فيما كانت ولازالت الحرية هي القبول بالآخر، المختلف، المغاير، هي مد الجسور بين البشر في توافقهم وتعاقدهم، واختلافهم النسبي أيضًا، وقد أجاد القرآن حين حدد في منهجه المعرفي، وهذا خلاف التدين والسياسة ب”إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” مؤكدًا على الاختلاف والتواصل والتعارف والأخلاق أيضًا. الحب والحرية هي التي تعزز بناء الأوطان والدول والوجود الإنساني، تنفي لغة الإقصاء واغتصاب الرؤى والأفكار، وبالضرورة الهمجية والتاريخ ما قبل الإنساني، قبل الوجود الفكري والقيمي له “فالإنسان ككائن مفكر قيمة القيم” حسب أرسطو، وأضيف الحرية والحب كمعنى وحضور دائم قوامه جدل الاختلاف ومحتوى الوجود ومضمونه، وسؤال الكينونة اليوم والشكل والتشكل الأمس وغدًا. فالحب والحرية النموذج التواصلي الأكثر انفتاحًا وقدرة على تغيير المحتوى الإنساني وعلاقاته فرديًا واجتماعيًا، فحسب أوشو إن ((أفضل الأشياء هو الصمت، من ثم الغناء، ثم الحب، فالكلمات ليست مجرد ألفاظ، إنها وسيلة تعبير وتواصل. وإن تمكنت من أن تصبح خبيرًا في اختيار الكلمات، فستتغير كل حياتك، كذلك علاقتك بالآخرين))(أوشو)، وإلا بقيت طرق الغزو والسلب وفرض سلطات الإكراه مهيمنة على الذات البشرية وتحكمها بلغة القوة والكره، وليس فقط بل تقيم عالم متشابه من العبيد، قابل لإثبات استلابه كل لحظة بالتكرار والتجربة، بلا رغبات أو نزعات أو أفكار أو إحالات لحياة جديدة تليق بالإنسان.
ثالثًا: الاختلاف والجذر الوجودي
الولادة والموت، الحاجات الفردية والاجتماع البشري، الوجود المادي والوجود كقيمة، حدين عريضين تسير بين ضفتيهما سيرورة التوافد البشري. حدين متطرفين بينهما مساحات واسعة لجميع التعارضات البشرية، يتفاوت حضورها بشكل نسبي في الحياة والتاريخ.
الخروج من حلقات التنافس والتضاد بالإكراه والإفناء، بحيث البقاء لأوحد ونهاية الآخر أو استلابه وفرض شروط استعباده، كأنثى سليبة الإرادة في عالم شرقي لا يعترف بحقها المختلف، كناخب مستلب لهيمنة قوى السلطة والمال العالمي، وبينهما عدد لا يحصى من إنكار حق المختلف وحريته. تكوين الجديد بفعل الحب والتلاقي الحر بين أنا وآخر، بين ذوات مختلفة جنسيًا أو جسميًا أو حقوقيًا أو أفكار وسياسات، وقد تجتمع كلها معًا في إنتاج الجديد والمساهمة في تشكليه وتكون اختلافه أيضًا، وهذا جدل الاختلاف.
الاختلاف المتعين في أطر الحياة شتى: ماديًا حسب ماندليف في ترتيبه لاختلاف عناصر الطبيعة وفروق ميزاتها، وكموميًا في اختلاف الجسيمات الأولية المكونة لذات المادة، فحتى المتشابهون كميًا وجسميًا يختلفون توزعًا وطاقةً، وهذا أصل التقنية وثورة العلوم الحديثة. اختلاف أنواع الأشجار، الحيوانات، أنماط الكائنات، طبيعة الجغرافيا… واختلاف البشر، جنسًا ولونًا، عادات وتقاليد وثقافات، رأيًا ومصالح وغايات وحتى اهواء ولون عيون… فلا تجد متشابهين مطلقًا، فحتى من ينتمون لذات الدوائر المتداخلة من كل الأطر سيختلفون في ميزة وميزات، أقله طول المنخار مثلًا، الطول، الرأي في قضايا عدة كالمرأة والسلطة والمعرفة… هذا الاختلاف هو جذر الترابط، جذر الاجتماع البشري، ومنتج حلقات الوجود الإنساني. فلو تركت العناصر لميزاتها الفردية وتعالت على بعضها دون تفاعل وتواصل، لما تشكل الماء من ذرتي هيدروجين موجبتين وذرة أوكسجين سالبة، والماء أصل الحياة. ولو بقيت الفلسفات والمعرفة الإنسانية على تنابذها وتنافيها المطلق بين فلسفة مادية ومثالية، لما أنتجت علاقات العقد الاجتماعي الطوعية والحرة، وقد أتاحت للجميع القدرة على التفكير والإنتاج رغم اختلافها البين.
الحب والحرية، شغف الإنسان بالمختلف، توق الروح للعناق، قدرة الوجود على الإبداع، صير الاختلاف على استحداث الجديد. والجديد هو طفل بين زوجين، حبيبين، هو حوار متنام بين ثقافات أو أديان مختلفة، هو نقد أدبي أو فني أو سياسي، هو عدالة بين متخاصمين قانونيًا، هو عقد وتعاقد جمعي على الحكم بين المختلفين هويةً ودينًا وفكرًا وثقافةً وسياسةً، هي نفي للهيمنة والسطوة ولغة الإكراه سواء كانت ذاتية الإرادة أو سلطة وضعية قائمة بموجب الأمر الواقع. الحب والحرية هي سلام الكون والوجود، وحقوق الانسان، والتعايش الكوني والاعتراف بكل نماذجه الثقافية، بدل الاحتراب والقتل والافناء وامتصاص خيرات شعب لحساب آخر.
هذه ليست أفكار رومانسية ولا يوتوبيا شيوعية ولا مجرد أفكار نظرية، بل محتوى تاريخي، ولحظات تغير وفواصل زمنية بين أشواط الحدة والقسوة البشرية ذات الهيمنة والاستقطاب الوحيد، وتحذيرات مما قد يحيق بالبشرية، إذا ما بقيت في سير تنامي تنوعات العداء والهيمنة وتكريس وحدانية الرقمنة والعولمة والبلعمة الثقافية والاقتصادية والتقنية، كما وسياسات الهيمنة العسكرية استبدادًا واضطهادًا. فـ((الاختلاف ضمني لأنه يعمل في الماهية. وهو كيفي، أي كيف الماهية مع نفسها. وإنه توليفي، لأن تحديد النوع وتوليف ويضاف راهنيًا إلى الجنس. وهو موسّط، بل هو بذاته توسط. وهو منتج لأن الجنس لا يقسم إلى اختلافات، بل هو منقسم باختلافات تنتج فيه الأنواع المقابلة. لهذا هو دومًا سبب. وهو أيضًا محمول من صنف خاص إلى حد أكبر، لإنه يسند الى النوع، وهو قاعدة انتاج حقيقية))(دولوز، ص 97-98)، ونفي الاختلاف هو نفي لأسس الإنتاج المجتمعي العام والخاص، وإيقاف حلقات تطوره، وإقامة الاستبداد والعسف.
الحرية والحب هي “الصمغ” الجامع بين الاختلافات، والاختلاف مولد الحياة. هو ليس تناقض وصراع بين أنماط وأنساق ومواد وذوات، دول وأمم… هو النسيج والمضمون الجمعي للوجود الإنساني والرابط المتشكل وغير المرئي بين موضوعتي المادية وفلسفتها المتجلية في شكل العلاقات المادية والسياسية والاقتصادية في المجتمع، والمعرفية وقدرتها الإبداعية فكريًا وثقافيًا، ومضاف لها مساحتها المتنوعة والغنية من آداب وفنون وموسيقا. هي هذا المثلث المتساوق والمتساير معًا في صيرورة الإنسان: القانون المادي والوضعي ونسبيته زمنيًا ومكانيًا، القيم الفكرية والأخلاقية وتصورنا عن الإنسان والوجود والكون، والتي تجتمع في محيطها الحيوي المتجلية في الروح الإنسانية وقد باتت ذات قدرة على الحياة والحب والحرية، حين تنوضع وتنبسط في وطن ودولة وأرض سلام، لا بل وكوكب ووجود.
الاعتراف بحق الاختلاف وممارسة الحب والحرية بات موضعًا أصيلًا في الدولة العصرية المتحققة في أوروبا، بينما تنحو البشرية اليوم بعامها، لمزيد من الاستلاب الرقمي والمادي، والتقليل من شأنهما أمام المساواة الرقمية، والمصالح التقنية، لا بل وتعزيز ثقافة الفرد الخاص في عالم هيامي لا يرتبط بالآخرين سوى بالحاجيات المادية وحسب، وهو ما يرصده ماركوز أمام تزايد المنافسة بين الحريات العامة والحريات الفردية وتناميها المفرط نحو الفردية حيث ((لم تؤد المنافسة العامة بين الأفراد الأحرار اقتصاديًا، وهم من خلقوا هذا النظام، إلى إقامة مجتمع عاقل يمكنه أن يضمن تحقيق وإشباع رغبات حاجات الناس جميعًا. ما جعل الصلة الوحيدة بين الأفراد هي صلة المشتركين والبائعين والمنعزلين للسلع))(ماركوز، ص 41).
رابعًا: الاختلاف وإختلال الوجود
أثبتت العلوم العصرية، وخاصة الفيزياء الحديثة النسبية والكمومية، الاختلاف كجذر لمحتواها التحرري من هيمنة العلوم ذات الطابع المركزي المهيمن. العلوم التي تحل كل مشكلات الكون بظاهرها المتشابه ماديًا وكميًا. الفيزياء العصرية ليست قوانين مادية تثبت التكرار والتشابه حيث طريقة العلم الكلاسيكية لإثبات أحقية قانون وحسب (حيث يتطلب إثبات قانون علمي إخضاعه لتجربة التكرار والتشابه الظرفي حتى يثبت صحة حقيقة علمية، كأن نقول بعد التكرار والتجريب أن كل المواد ذات الوزن الحجمي أقل من الماء تطفو على سطحه، ولكن ماذا عن المختلف؟ هل يطفو الحديد مثلًا؟ نعم يطفو والدليل هو السفن والبوارج بكل حمولتها، فهل تخالف القانون؟ لا، فلو بقينا نبحث بذات الآلية من التكرار لبقي الحديد ذو الوزن الحجمي الأعلى من الماء يغرق فيه، ولكن إدخال الهواء المختلف في مكون الصناعة يغير محصلة جماع قوة دافعة أرخميدس ويحقق فعلًا متغيرًا). وقد أجاد الفيلسوف الفرنسي دولوز في طرح الفرق بين الاختلاف والتشابه فلسفيًا ((عندما نقول أن شيئين يتشابهان، كنقطتي الماء، أو عندما نطابق بين “لا وجود لعلم إلا بالعام”، و”لا وجود لعلم إلا ما يتكرر”، فالاختلاف بين التكرار والتشابه هو بالطبيعة))(دولوز، ص 45). الفيزياء العصرية هي أيضًا طريقة تفكير ومنهج عصري يكشف لنا حقائق مختلفة باتت اليوم وظائف وأدوات علمية ومعرفية واسعة الاستخدام والانتشار.
التشابه ليس تكرار وحسب بل يكتنف مفاهيم متعددة لا تلغي الاختلاف بل تقيم التعاطف مكنونًا، فهو حسب فوكو في معرض جداله للمعرفة بالقرن السابع عشر، وحواره للمعرفة والسلطة ومتغيرات حضورها العصري، يفترض للتشابه مجالات أربعة هي: ((التوافق وهو شبه مرتبط بالمكان، ويندرج في نظام الوصل والضبط، والتنافس وهو نوع من التوافق وقد تحرر من قانون المكان ويعمل ساكنا في المسافة، وأن حلقات السلسلة وقد تفككت تعيد إنتاج دوراتها بعيدًا بعضها عن البعض الآخر وفق تشابه بلا اتصال، ومن بعد التماثل والقياس وهو تراكب التوافق والتنافس، والذي يؤمن المجابهة الرائعة للمتشابهات عبر الحيز، ولكنه يتحدث عن شأن التوافق عن الضوابط والروابط والصلات، قدرته هائلة، ذلك لأن التشابهات التي يعالجها ليست المتشابهات المرئية الكثيفة للأشياء نفسها))(فوكو، ص 39-41). بعد ذلك يأتي التعاطف، و((التعاطف وهناك ليس ثمة أي طريق معينة سلفًا ولا أي مسافة مفترضة ولا أي تسلسل مقرر. إن التعاطف يقوم بوظيفته في حرية كاملة في أعماق العالم، وهو يطوف في برهة أشد الأماكن اتساعًا))(فوكو، ص 43). والتعاطف من العاطفة، من الحب، من ولوج العالم بتواليه المتشابه في حيزات متعينة ثقافيًا وماديًا، وتفارقه في مواضع أخرى للتنافس والصراع المادي والروحي أيضًا، لتشكل في طبيعتها نماذج قياس معرفية قابلة للمحاكاة العقلية. وهذه المحاكاة العقلية لا يمكن لجمها إلا بالحب والتعاطف الإنساني وإلا هيمنت إحدى الحلقات السابقة على الوجود وتنكرت لاختلافه مولدة كل نماذجه المتعاقبة.
ليست الفيزياء الحديثة وحدها من عالجت الاختلاف وبحثت في تموضعاته، بل علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة، كلها بدأت بالتحول من نظام التشابه التكراري لنموذج البحث في الاختلاف الذي يبنى الميزات والفروق وليس فقط، بل يكشف عن فعل الترابط بين هذه المختلفات وتشكيلها للبنى الجمعية. فالذرة ليست جسما صلبا متشابها وحسب، بل هي مبنية في استقرارها وتعادلها وميزاتها على الاختلاف الذي يكونها ماديًا بين الكترونات سالبة، وبروتونات موجبة، وطاقيًا حسب التوزع المكاني لسويات الطاقة لكل المتشابهات في الخصائص ذاتها، فالإلكترونات المتشابه بكل الخصائص الكمية تتوزع وفق سويات طاقية تختلف على الأقل، بخاصية كمومية واحدة حسب مبدأ الاستبعاد لباولي، ما يلزم ترابط الذرة وتشكيل هويتها المختلفة عن أخرى. ربما يتبادر للذهن سؤال علمي، ماذا عن النواة ذات المحتوى العام الموجب من البروتونات، كيف تستقر وتتوازن؟ هنا تبرز الفكرة الأكثر اشراقًا في الفيزياء العصرية، لتقول أن التشابهات المادية هذه، ورغم اختلاف البروتونات كموميًا عن بعضها بخاصية التوجه السبيني أقله، هذه التشابهات المادية ليست الحاكم الوحيد في البناء، بل التوازن الطاقي، التوازن الكوني الأنيق كما أجازه ستيفن هوكنج. وأجيز القول الدلالي للفلسفة أنه “البعد الروحي”، في حيز ضيق من المسافة، في وحدة المصير والتوجه، في شغف الحضور وإثبات الوجود. هذا التوازن أو ما نسميه علميًا “طاقة الارتباط” هو الفاعل المهيمن بين هذه التشابهات والذي باختلاله تنفجر النواة وتعطي الطاقة النووية الشديدة والمذهلة.
يمكن إدراج ألاف المعطيات التي تفيد بالتنوع والاختلاف في مختلف أنماط النظريات العلمية والمعرفية، اختلاف البشر، تنوع الأعراق، اختلاف الأديان، الهويات أو الصفات الفردية والجماعية…. حيث ((يمكن للتاريخ أن تحوله العلوم الإنسانية بقدر ما تتمكن مقارنته بهذا القدر الذي يمكن للتكنولوجيا أن تحول به حياتنا، فلدينا الكهرباء والطاقة الذرية، ولكن نسيج حياتنا يظل مؤلفًا من العلل والغايات والمصادفات))(فين، ص 272) ونضيف هنا الاختلاف أيضًا متابعة مع ما أراده ميشيل فوكو في أزمة المنهج، وإن اختلال التوازن فيما بينها سيلغي الاختلاف ذاته، ويفتتها من داخلها، وأوضح ما يمكن أن نتلمس نتائجه اليوم لتفتيت البنى المتماسكة، هو صراع الطوائف والمذاهب العرقية حين يختفي مفهوم المواطنة والوطن ويبحث كل فريق عن هيمنته المطلقة. صراع العالم الجيوبوليتيكي على قطبية العالم المفردة أمريكيًا وروسيًا… والميزة الأدعى للدراسات النظرية والتطبيقية هي أنه رغم الاختلاف بين هذه المكونات في ذاتها، كحالة طبيعية أولى، لكنها متشابهة بالفعل الوظيفي المهيمن حين يختل التوازن. والتوازن له مسميات ومصطلحات عدة هنا: بنية الوطن، سلام الكون، حرية الشعوب في تقرير مصيرها…. لتغدو وفق ذلك دولة الحريات العصرية، هي النموذج الأكثر اتساقًا مع هذه المفاهيم فهي: بنيت على الاختلاف بين المواطنين، وعلى ممارسة حرياتهم، وعلى احترام حقوق المختلفين والالتزام بها، فالحرية حرية الآخر حسب سارتر. وليس فقط، بل ثمة عقد اجتماعي عام يلغي هيمنة إحدى هذه الميزات على الآخرين. إنه جدل الاختلاف في صورته الأبستمية وقد بنى لوحتي الحرية والحب في صيغة عصرية تسمى معطى الاستقرار ومولد الجديد والحديث والشغوف بآن، سمي عصر الأنوار والحرية. هذا مع إدراكنا العميق، واتفاقًا مع فوكو أن الأبستمية ليست قانونًا بل ((قاعدة معيارية أو جردًا شموليًا لطرق إنتاج المعارف، بل هي الأساس لكل علم ممكن))(العيادي، 18).
رغم هذه التنويعات الهائلة، والفتوحات المدهشة في شتى مناحي الحياة العلمية والمعرفية التي دشنتها الفتوحات العلمية والمعرفية العصرية بدايات القرن العشرين، ورغم الكشف الهائل عن اللامرئي في مكنونات البشر والطبيعة كوجود، ورغم ثورة التقنية التي تحققت على أساسها، فقد بات العالم قرية كونية تواصلية صغرى، حسب ماكلاهون. لكن حين بات الاختلاف يصاب بالاختلال والتوظيف فيه لصالح تشكيل أقطاب واستقطابات استحواذية ومالية وسياسية معولمة، آنذاك بدأت العودة التدريجية للاستلاب العام بوصفه هيمنة تقنية ورقمية، واهم ما تفعله اليوم أنها تلغي شرطي الحب والحرية، كبعد ثالث من الوجود. وتقيم بدلًا عنه، الهيمنة الرقمية والتشابه والتساوي الذي يلغي الاختلاف ومحفزات الوجود. والتساوي والتشابه هنا هو ليس العدالة كما ينظر لها البعض بحق الوصول للمعلومة بآن، فهذه مجرد ظلال معرفية واستخباراتية عالمية، فكل المؤشرات العالمية تشير إلى الغرف السوداء التي لا تتيح تداول كل المعلومات، فهناك السرية منها وتحت مبررات عدة كالأمن الوطني وغيره، ولكن بذات الوقت تحول البشر لمجرد أرقام ونماذج تقنية وحسب، وهذه ليست عدالة بل استلاب من نوع محدث، يلغي الاختلاف والحب والحرية.
اليوم، وقد غدا العالم المدفوع للرقمنة والشيئية وغير المحدود بالقيمة الإنسانية، ينتقل بالإنسان بصفاته الاجتماعية والعاقلة واللغوية والشعورية والعاطفية لرقم في منزل، ولربما لقوة عمل معطلة، وربما لمشروع فرد قابل للتحكم والسيطرة على قدراته وامكاناته وتوجهاته، ما يحيلنا للتساؤل عن قدرات التقنية هذه وحضورها المفيد والاستلابي بآن في عالم الإنسان. ولنجيز القول هنا أن الطبيعة الرقمية هذه أعادت الإنسان لجمل مكررة الاستلاب، ولكن ليس ببعدها الجسيمي غير المكتشف، بل ببعدها غير المرئي المنكشف، وهذه مفارقة كبرى!
الحب والحرية وجدل الاختلاف ذو ميزات متحققة في الوجود الإنساني بعمومه، معرفيًا وعلميًا وحياتيًا، وما الاختلال الحاصل في سيرورة الكوكب اليوم، سوى إنكار لهذا البعد الثالث منها، وتسطيح الرؤى وظيفيًا واستلابيًا وأداتيًا، وألخصها بحثيًا في النقاط التالية:
• الاختلاف وجود أول للتشكل والكينونة والهوية.
• التشابه التكراري وظيفي موجه يلغي الاختلاف.
• التعادل العام في أية بنية واستقرارها يقوم على الاختلاف لا على التشابه.
• الطاقة الروحية المعززة بنماذج الحب والحرية هي شرط تماسك البنى والحفاظ على اختلافها.
• الحب والحرية ليسوا صناعة فيزيائية أو علمية، بل البعد الثالث لارتقاء الإنسان ونفي استلابه المادي أو السلطوي أو التقني.
• اختلال التوازن الوجودي وفقدان خط استقراره أصله ومنشأه نكران الاختلاف وإلغاء الروابط الجمعية، لا بل وتوظيفها باتجاه وحيد مهيمن.
إن كل سلطة تفرض شروط هيمنتها دون توافق واشتراط الحرية والحب، تقوم على إلغاء المختلفين وتحويل المجتمع البشري لقطيع متشابه من الوظائف يحمي سلطتها المنفردة وحسب، وإلا فنفي المختلف بالمعتقلات والتهجير والقتل، وسوريا اليوم مثالًا فجًا، والوظائف الأمريكية المعولمة في الغزو والهيمنة المنفردة على العالم، وعودة روسيا الجيوبوليتيكية لاقامة التنافس الوظيفي في اقتسام النفوذ العالمي، هي نماذج أوضح لاجتثاث المختلف وإقامة الخلل العالمي وإباحة التغول ونفي الحب والحرية. حيث يصبح الاختلاف لعنة تحاربه كل السلطات المهيمنة، ف((لا يجب أن نندهش من أن يبدو الاختلاف ملعونًا، ومن أن يكون الغلطة أو الخطيئة، هيئة الشر المحكوم عليها بالتفكير، فالقسوة العنفية هي فقط في التعيين، وهذه النقطة الدقيقة حيث يقيم المتعين صلته الجوهرية باللامتعين))(دولوز، ص 95)، وربما تحتاج كل نقطة من هذه النقاط أعلاه لدراسات بحثية متخصصة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وهذا موضوع عمل هام وضروري، لكن نقطتي الأكثر تركيزًا هذه اللحظة، هي سؤال السلام والاستقرار والأمان من خلال الكشف عن مكنونات هذه البنى المتحركة من داخلها.
خامسًا: الوجود والكون المختلف
لحظات الحب والحرية كتجلٍ للاختلاف والتي حققت لحظات وقفزات كبرى في نظرية المعرفة اتسعت جدليًا وعقليًا وأداتيًا، بحيث انتقل الإنسان معها من لحظة لأخرى، لحظات المغايرة والمفارقة المتعاقبة هذه أسماها هيجل بلحظات القلق، حيث يبدو العقل هو خلاصة التطور البشري سواء كان ببعده المثالي أو المادي، فـحسب هيجل ((العقل هو جذر مشترك بين الإلهي والبشري على حد سواء))(كرونر، ص 85-87). والتي يمكن إيجازها بحثيًا:
• لحظة الانعتاق من هيمنة الطبيعة بالقوة ولغة الخلود الأرضية كلحظة عناق كبرى مع ارتقاء الإنسان وتحقيق ميزته المفارقة عنها أسطورة.
• لحظة ترويض القدرة الفردية الأولى للأسطورة في سياق الاجتماع البشري، وقد اكتست حلة معرفية أخلاقية وجودية تطورت لنموذج تحقيق الذات الإنسانية النسبية، ودون مرتبة الإله، مع العقل الكلي معرفيًا، العقل كلي الإطلاق. الفلسفة المثالية والأديان جعلت الإله خارج الإنسان، وقربت الإنسان من إنسانيته حين يعيش ضمن الجماعة. بينما سلطات الشرق السياسية والدينية، كما سلطات المال والتقنية، تعيده للذات الإنسانية المادية نازعة عنه الخير والحب والحرية، إنه تحول النسبي للمطلق حسب الياس مرقص ((من ليس عنده في روحه وفكره، المطلق، سيحول نسبيه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد))(مرقص، ص 20).
• لحظة الحرية والانعتاق من هيمنة خارجية إلى دائرة الاجتماع والتعاقد البشري، ووضع الحد على شطط المطلق لمرتبة الإله. هي لحظة التوافق البشري زمنيًا ومكانيًا على قدرة الإنسان وإبداعه العلمي والعقلي فكانت ثورة عصر الأنوار ولغات العصر الحديث.
• اليوم يبحث الإنسان عن لحظة رابعة في تواصله مع ذاته والكون باتساعه مرة أخرى، وقد غدا الكون جملة واحدة أمام الإنسان، بعد أن قست النماذج العلمية والتقنية على وجوده الإنساني شعوريًا وعاطفيًا، على إحساسه بجمال الكون وقدرته التأملية، فهل يمكنه استعادة هذه اللحظة بهذا العصر المكبل بقوانين العلم ونزعات الهيمنة المادية وتراجع نظريات المعرفة غير المسبوق أمامها؟
فإن كان الجدل الكمومي قد حرر العلوم من هيمنة فلسفات الشمول الكلية دون إدراك مفارقات الوجود والعصر، والجدل التواصلي باني جسور الانفتاح الثقافي ويحد الشطط العلمي، فالجدل العاطفي واضع أسس وسلام الكون وأمانه ويحد النفس الأمارة بالسوء، ليغدو الجدل الأبستمي يعيد للكون استقراره ونماءه المتوازي نحو حرية الانسان كما هو إنسان حب وحرية.
يقول نيتشه: إذا هل العالم، الكون، جملة قيمية مثالية وفقط تتقدم؟ سؤال في الفلسفة والفكر وحاضر اليوم. الثقافة اليوم في معضلة القول وقد ترسمت فيها كل أبعاد القيمة الإنسانية ولكنها عجزت عن الفعل، عن إنتاج لحظة اللقاء تلك بين نظرية المعرفة بعمقها الفلسفي والأخلاقي مع نظرية العلوم وتخصصاتها المتعددة. إلا أن كلا من النظريتين أخذت حيز وجودها العقلي والفعلي معًا في الواقع العام لأنظمة العالم المتقدم. ف((التعاون الفلسفي لكلا جانبي العلم الفيزيائي –الجانب العقلاني والجانب التقني- يمكن أن يختزل في السؤال التالي: على أية ظروف يمكن أن نرجع سبب ظاهرة محددة؟ إن كلمة محددة من جانب ما أساسية، ذلك أنه في الدقة والتحديد يتم ارتباط العقل)) (باشلار، ص 144)، لتبدأ وفقا لذلك المنهج موضوعات أخرى في المعرفة الإنسانية، يتم علاجها بأدوات عقلية أكثر اتساعًا واطرادًا في التحقق والتعيين والتحديد والتجاوز أيضًا، واشتراطها الوجودي جدل الاختلاف بحثًا عن الوجود المترابط حرية وعاطفة وحبًا.
نسيان الوجود، معناه، جذوته، شغفه، شعلة الروح، وكل حدث او فعل مادي، يتغلغل ضمنه، يتخلل سياقه ما هو غير مرئي. فحدث الولادة وإنجاب طفل يكتنفه اللامرئي حبًا أو إكراهًا، وكلاهما (الحب والإكراه) غير مرئيين، ولا تكفي النتيجة برهانًا سوى على المنتج بصفته المادية، أما ما يمكن أن يحيطه من مشاعر وعواطف وتربية نفسية، فتبدو في أصلها وجوهرها الضمني هي تلك الروح المحبة لحظة حب أو الكراهية لحظة اغتصاب وعدوان وإزهاق للحرية.
النموذج القهري للسلوك البشري العام، ولا أتناول هنا الحالات المشخصة مرضيًا أو استثناءً، هي نتاج قمع وكبت الحرية، وإنكار الاختلاف، وبالضرورة طمس معنى الوجود. الوجود وليس نقيضه العدم حسبما درجت كثير من الفلسفات، وما وراء الوجود، الميتافيزيقا، ليس هو اللاهوت، أو الأفكار الغيبية، التي درجت على نقضها الفلسفات المادية وإحياؤها في الجهة المقابلة المُثل الدينية والفلسفات المثالية. الوجود تواكب وتساير لكل هذا مجتمعًا روحًا وفكرًا ومادة وقوانين وعمل. الوجود وقد اكتنز الظاهر والمرئي، ومثله الأثيري والشغوف والايحائي والإيماني، ورغم اختلافهم جدليًا، لكنها نموذج تكاملي في الحضور والمعنى. و((السؤال الأساسي في الميتافيزيقا يحمل في طياته سمة تاريخية، لأنه ببساطة يفض ويفتح الطريق إلى عملية الوجود الإنساني، في علاقته مع الموجود بحد ذاته وعلاقته بالكل، وأيضًا من أجل أن يفضه ويفتحه على فضاءات جديدة من الإمكانيات التي لم يتطرق لها))(هايدجر، ص 64). وهنا سؤالنا البحثي في فضاء الحب والحرية حين يفض شرنقة الدروب المقفلة مجددًا لكون تتحقق فيه جدلية الاختلاف ووحدة الوجود الذي تكاد عراه تنفصم اليوم كلية وتغلب عليه الهيمنة والعسف وحيدة البعد.
الحب والحرية وجدل الاختلاف خلاصة محتواها وهدفها:
• سلامة الكوكب وأمانه يأتي أولًا من الحب الإنساني والتعاطف.
• الحب والحرية شرط اكتمال دائرة التواصل الإنساني العقلي والحسي وانفتاحها على جمالية الوجود والكون.
• العدالة الإنسانية كما الحب والعاطفة لا تلغي التنافس لكنها تحد من الاحتكار والهيمنة وتجعل التنافس ذو غاية إنسانية في سعادة الإنسان.
• هو ليس عالم الشيوعية والمشاعية المثالي، ولا جنة الله في سمواته، بل هو عالم العصرية الذي أحد أهم اسسه التقدم العلمي والإدراك العميق والمسؤول عن سلامة الكون والإنسان واستمراره.
الفيزياء الحديثة كما غيرها من العلوم المؤسسة لنظرية العلوم اليوم وقبل قرن من الآن ذهبت بهذا الاتجاه، باتجاه الوحدة الكونية، باتجاه التبادل بين موضوعتي المادة والطاقة وحررتها من قيود المادية المحضة للعالم النيوتوني المحسوس، وذهبت باتجاه التراكب والتواكب بين الحالة الموجية والمادية للأجسام، فأنتجت ثورة التكنولوجيا العصرية، وحققت معادلة الوحدة المادية الموجية. وهذا ليس حدًا نهائيًا فيها. حيث تذهب نزعات السطوة والاستحواذ بقوانينها التقنية باتجاه الإنتاج المادي الرقمي المحض وتعيد هيمنتها إذا ما تخلت عن وجودها التصوري الفيزيائي المعنوي للكون وهو ما يحاول مفكرو الحداثة تلمسه في واقع القرن الواحد والعشرين، وما نحاوله نحن الغارقون في قعر التفسخ البرميلي للكوكب كراهية وبغضًا واحترابا، نحاول عكس مسار انحداره، والتحذير من خطر انزلاقه إذا ما أنكر الاختلاف بين الثقافات ونماذج التحرر الإنساني، وحقوق الإنسان العامة والخاصة، وفحواها:
أنا موجود فأنا الحب والحرية، وإلا مُسخت عبداً سليب الإرادة.
– المراجع:
• جيل دولوز، وفليكس غتاري، ما هي الفلسفة، ترجمة مطاع صفدي، (بيروت: مركز الانماء القومي، 1997)، ص 33.
• آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة، مشاعل عبد العزيز الهاجري، (بيروت: دار سؤال للنشر، 2020)، ص 94.
• سيغموند فرويد، علم نفس الجماهير وتحليل الأنا، ترجمة جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة، 2006)، ص 55.
• عبدالله العروي، مفهوم الحرية، ط5، (الرباط: المركز الثقافي العربي، 1993)، ف 1.
• هيجل، علك الجمال وفلسفة الفن، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، (القاهرة: دار الحكمة، 2010)، ص 35.
• أوشو، ألف باء التنوير، ترجمة علي الحداد، (بيروت: دار الخيال، 2009)، ف1.
• هربرت ماركوز، العقل والثورة هيجل ونشأت النظرية الاجتماعية، ترجمة فؤاد زكريا، (القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، 1970)، ص 41.
• جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ترجمة وفاء شعبان، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص 45.
• ميشيل فوكو، “الكلمات والأشياء”، ترجمة، مطاع الصفدي وآخرون، (بيروت: مركز الانماء القومي 1989- 1990)، ص 39 -42.
• ستيفن هوكنغ، تاريخ موجز الزمان، ترجمة مصفى فهمي إبراهيم، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة جدران المعرفة، القاهرة، 2006).
• بول فين، أزمة المعرفة التاريخية، فوكو وثورة في النهج، ترجمة إبراهيم فتحي، (القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر، 1998)، ص 272.
• جان بول سارتر، الوجودية مذهب انساني، ترجمة، عبد المنعم حنفي، (القاهرة: الدار المصرية للطباعة والنشر، 1964)، ص 58.
• عبد العزيز العيادي، ميشال فوكو، المعرفة والسلطة، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات، 1994)، ص 18.
• ريتشارد كرونر، تطور هيجل الروحي، ترجمة امام عبد الفتاح إمام، (بيروت: دار التنوير، 2010)، ص 85- 87.
• الياس مرقص، المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، (سورية: بلا دار نشر، 1991)، ص 20.
• جاستون باشلر، الأبستمولوجيا، ترجمة درويش الحلوجي، (بيروت: دار المستقبل العربي، 1998)، ص 144.
• مارتن هايدجر، مدخل إلى الميتافيزيقا، ترجمة عماد نبيل، (بيروت: دار الفارابي، 2015)، ص 64.
• Marshall McLuhan, The Gutenberg Galaxy, 1962, https://www.amazon.com/Gutenberg-Galaxy-Marshall-McLuhan/dp/144261269X
• Heisenberg, W., (2011). The Physics Principles of The Quantum Theory, Translated into Arabic: Abd-Elmotaleb, M. S & Elshebky, E. M. H., Kalema, UAE, P. 175.
• Livesey, D. L., (1966). Atomic and Nuclear Physics, The University of British Columbia, Blasidell Publishing Company, London, P. 543.